[“كتب” هي سلسلة تستضيف “جدلية” فيها المؤلفين والمؤلفات في حوار حول أعمالهم الجديدة ونرفقه بفصل
من الكتاب.]
”وهم الحرية: مقاربات حول مفهوم حرية الفكر والإرادة“ المؤلف بُرهان شاوي، عن الدار العربية للعلوم ناشرون 2012
جدلية: كيف تبلورت فكرة الكتاب، وما الذي قادك نحو الموضوع؟
بُرهان شاوي: أنا لم أفكر في تأليف كتاب حول هذا الموضوع، أقصد هنا سؤال الحرية والإرادة، وإنما تشكل الموضوع بشكل عفوي في البداية. فقد كنت أفكر في كتابة روايتيّ (متاهة آدم) و(مشرحة بغداد)، وهما خطوة جديدة في تجربتي مع السرد الروائي، فبعد سنوات طوال من كتابة روايتي الأولى (الجحيم المقدس)، حيث كنت قد كتبتها في العام 1987، بألمانيا، بدأت كتابة روايتي (متاهة آدم) في صيف العام 2011، وكنت أثناء ذلك قد كتبت الفصل الأول من روايتي (مشرحة بغداد). ولأن الروايتين تناقشان محنة الإنسان في هذه الحياة، وأسئلة الوجود البشري، وإرادة الكائن البشري في تحديد مصيره، فقد كان من الضروري أن أصل إلى إستيعاب هذه الأسئلة بالأقل، من خلال مراجعة بعض مراحل الفكر البشري في سعيه للإجابة على هذه الأسئلة.
وبعيداً عن كل إشكالات الرواية والكتابة الروائية، كان سؤال الحرية مقلقاً بالنسبة لي، فهو يرتبط بسؤالي عن حقيقة المقدس، وحقيقة خلق الجنس البشري، ومفهوم الخطيئة، والخطيئة الأولى لآدم، وما يترتب على ذلك عن سؤال الحرية والإرادة، وهل الإنسان مخير أم مسير؟ فإذا كان مخيراً، فلماذا هو ليس مخيراً في إعادة قوى حواسه ووظائفها، وفي التحكم بالوظائف البايولوجية على الأقل لجسده، إذ أن هذا الجسد مثل معمل كيمياوي لا سيطرة لنا عليه، بالرغم من أنه جسدنا، وملكنا؟ وإذا كان مسيراً، فسنقع في محنة أخلاقية ودينية، إذ أن كل الفساد والجريمة التي تسمم العلاقات الإنسانية لا يتحمل الإنسان وزرها، فالمجرم ليس مجرماً لأن هناك من كتب عليه هذا المصير، وبالتالي فهو بريء، وعقابه جريمة؟ هكذا بدأتُ من الأسئلة البسيطة، وهكذا توجهت لمعرفة مواقف المفكرين والأديان من هذه الأسئلة التي بدأت ساذجة وبسيطة جداً، لكن اتضح أنها بسيطة كالماء ومعقدة ومليئة بالأسرار مثل الماء أيضا. هكذا بدأت أولى خطواتي مع الكتاب. لكن من عادتي، وهذا من طبيعة عملي الأكاديمي، أن أدون الهوامش والاستشهادات بالنصوص في أوراق جانبية، وأبوبها حسب الموضوعات والفصول. وحينما انتهيت من كتابة روايتي، وجدت أنني قد أنجزت كتاباً موازياً يبحث في إشكالية الحرية وإرادة الإنسان.
ج: ما هي الأفكار والاطروحات الرئيسية التي يتضمنها الكتاب؟
ب.ش: إنه كتاب بحث، وأسئلة ومراجعات شخصية حول ما تم طرحه عبر التاريخ، عما جاء في الأديان والفلسفات القديمة، وعما طرحه المفكرون، وبالتالي ليست هناك إطروحات مقصودة ومحددة في الكتاب، فهو كتاب يعرض بالشكل الذي فهمته، مفهوم الحرية والإرادة، مع تعقيباتي هنا وهناك، أثناء العرض. لكن الذي توصلت إليه من خلال الكتاب هو أن أي حديث عن حرية الإنسان المطلقة، ليس إلا ضرباً من الوهم، فالإنسان محكوم عليه بضرورات بايولوجية، لا يستطيع أن يغير من مسارها. فمع لغز أول نبض للقلب في جسد الجنين، وهو في رحم أمه، تبدأ ماكنة القلب بالحركة والنبض، وليس للإرادة الإنسان أي دور في ذلك، ولا يستطيع أن يتحكم هو بقلبه، إلا إذا قرر أن ينهي حياته. وكذا الأمر مع الدورة الدموية الكبرى والصغرى، وكذا الأمر مع عملية الهضم والتتمثيل الغذائي، بل وحتى مع البول والتغوط، فلا سيطرة للإنسان على جسده، فكأنما في أعماق جسده ثمة كائن حيواني آخر، إنسان آخر، هو الذي يسير جسده. كما إن الإنسان محكوم بضرورات كونية، فهو لا يستطيع أن يغير من حركة الليل والنهار، ولا أن يتحكم في الفصول، ولا في حركة النجوم، وتألق النجوم واختفائها عن السماء في بعض الليالي. لكن الإنسان، من الجانب الآخر، كائن حر في أن يحب أو لا يحب نوعا ما من الفواكه، أو يشتري الثياب التي تعجبه، أو أن يقرأ الكتاب الذي يشاء، وأن يتبنى الفكر الذي يعتقده صحيحا، وأن ينتمي للحزب الذي يؤمن به، ويناضل ضد الظلم، والإضطهاد، والعنصرية، والإستغلال والقمع الفكري، وأن يتحمل وزر أي تصرف يقوم به، وبالتالي يمارس حريته، أو هكذا يعتقد. وبالتالي ثمة وهم في فهم حرية الإنسان. ويمكننا أن نعود إلى حي بن يقظان لابن طفيل، او روبنسون كروزو المعزول في جزيرته، فما معنى الحرية بالنسبة لهما؟ إنها عبء لا معنى له.. إنهما أمام معنى وجودهما في هذا الكون.. مفهوم الحرية الإجتماعية والسياسية وكل مفاهيم الأخلاق والعدالة تسقط معناها حينما يكون الإنسان وحيداً، مثل روبنسون كروزو وحي بن يقظان.. إنهم أمام سؤال الوجود، وفي هذا الوضع بالذات الإنسان محكوم بالضرورات الكونية والبايولوجية أكثر من أية ضرورات إجتماعية .. إنها متاهة الوجود.
ج: ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
ب.ش: ليست هناك تحديات محددة. ربما بذلت جهداً للحصول على أكبر عدد ممكن من المصادر، سواء التي استخدمتها وأخذت عنها الكثير من الاستشهادات، أم التي قرأتها فقط، لاسيما وأنا كنت أكتب تحت ظروف قاهرة، وتوتر سياسي واجتماعي مرعب. الكتاب أنجزته في بغداد، ونشرته مسلسلاً في جريدة الصباح الجديد البغدادية أول الأمر، قبل أن يظهر في كتاب. وربما يمكنني الحديث عن تحدٍ ، بل عن حالة واجهتني أثناء البحث ، إذ وجدت الكثير من التفاهات والخزعبلات في الكثير من كتب التراث، مثلما في كتب بعض المعاصرين، كما اكتشفت أن الطائفية في الفكر الإسلامي تمتد من سقيفة بني ساعدة، وستبقى إلى آخر الزمان.. لقد رأيت الكثير من الباحثين المتميزين، لكنهم مثل الذي يقرأ آية (ولا تقربوا الصلاة..). مفكرو نصف القول، والإستشهادات المبتورة، والتضليل المقصود، مثلما رأيت التبعية الفكرية المقززة، حيث الكثير ممن يحاول إبراز معرفته التاريخية ودعم كتابته وبحثة بخلفية تاريخية، لا يعود للنص التراثي الأصلي، وانما لإستشهادات كتاب آخرين، ومعظم هؤلاء الآخرين قد شوهوا النص الذي استشهدوا به، والنتيجة تكون ركاماً من الاستشهادات التاريخية المبتورة والمشوهة عند قصد أو عن إستسهال فكري، لكن لتكرارها صارت أشبه بالحقيقة التاريخية.. ومراجعة بسيطة للأصل التاريخي وقراءة ممعنة له، تكشف التضليل الهائل الذي مورس على مدى عقود، بل وقرون من الزمان. الاستسهال.. الاستسهال هو سرطان البحث الفكري في التراث الإسلامي. وبالمناسبة، ولكي أكون أميناً، لقد واجهت مثل هذه الحالات في الفكر الأوربي ايضا.
ج: كيف يتموضع هذا الكتاب في الحقل الفكري/ الجنس الكتابي الخاص، وكيف يتفاعل معه؟
ب.ش: أعتقد أن هذا الكتاب ينتمي لحقل الدراسات الثقافية..فهو يخرج عن أصولية البحث الأكاديمي الصارمة.. كتاب فيه شرح مفاهيمي وتاريخي وفلسفي أكثر من كتاب طروحات محددة سلفاً من أجل اثباتها وتأكيد نتائجها.
ج: ما هو موقع هذا الكتاب في مسيرتك الفكرية والإبداعية؟
ب.ش: لا أستطيع أن أحدد موقعاً معينا له، لكني أعتقد أنه يقف في موقع مفصلي في تجربتي الفكرية، ومسيرتي في الكتابة. بالمناسبة..هناك فصول عديدة أخرى لم ألحقها بالكتاب، لأنها تدخل في حقول تبعد الكتاب عن مركز الأسئلة..هناك فصول عن خديعة المعتزلة التاريخية.. وعن دور الشيعة في الصراع الفكري الإسلامي.. وعن لا علمية معظم الدراسات التي تناولت المعتزلة ومنحهم هذه المكانة في تاريخ الفكر الإسلامي.. وأرجو ألا يفهم من كلامي أنني ضدهم، وإنما أردت القول بأن الدراسات التي كتبت عنهم تتناولهم دون الانتباه للشرط التاريخي، فهم يتحدثون عن أول شيوخ المعتزلة مثلاً، ويربطون طروحاته بطروحات شيخ آخر منهم عاش بعده بمائتي عام، وكأنهما رأي واحد.. مثلما نتحدث اليوم عن الماركسية، فنتحدث عن فكر ماركس ونكمل فكرته بآراء وأفكار لوي آلتوسر، علماً أن لوي آلتوسر نفسه كان يضع الحدود بين ماركس الشاب صاحب مخطوطات 1884 وماركس صاحب (رأس المال)، ويعتقد أنه هو ليس نفس الفكر الذي عُرف بالماركسية فيما بعد.
ج: ما هو الجمهور المفترض للكتاب، وما الذي تأمل أن يصل إليه القراء؟
ب.ش: لا أفكر بالجمهور عند الكتابة..لكني أفترض الجمهور الذي يعرف الذين أتحدث عنهم.. وقد يبدو الكتاب للمتعمقين ليس إلا تذكير بمشكلة الحرية والإرادة، لكن من موقع آخر، لا يفترض الاختلاف، وربما سيولد المتعة الفكرية والمعرفية عند الذين لم تتسن لهم الظروف لقراءة معظم الفلاسفة المفكرين الذين أتحدث عنهم في الكتاب، وربما سيولد لديهم بعض الأسئلة حول مفهوم الحرية والإرادة.. وإذا ما حصل ذلك فسأكون سعيداً حقاً، وأعتبر أنني حققت شيئا.
ج: ما هي مشاريعك الأخرى المستقبلية؟
ب.ش: ما زلت منهمكا في الكتابة الروائية، وأعتقد أني سأكرس نفسي ووقتي لها، فقد بدأت ثلاثية المتاهة: متاهة آدم، متاهة حواء.. والآن أنا منهمك في كتابة متاهة قابيل. أما في المجال الفكري فقد كان بودي متابعة الفصول الأخرى وتنظيمها في كتاب، لكني وجدت أن من الضروري كتابة فصول أخرى كي أتمكن من ضمها ككتاب، لكن الأمر مرهون بالوقت، ولا أعرف بالضبط متى يمكنني ذلك.
”وهم الحرية: مقاربات حول مفهوم حرية الفكر والإرادة“ المؤلف بُرهان شاوي، عن الدار العربية للعلوم ناشرون 2012.
الشواهد والبحوث في (تاريخ النزول) تؤكد بأن أول إشارة لقصة (آدم) وردت في صورة (ص) دون الإشارة إلى اسمه، لكن سرد نص القصة يتكرر في سور لاحقة بذكر الاسم (آدم)، بدءأ من سورة (الأعراف) حيث يرد ذكر اسم (آدم) لأول مرة في القرآن الكريم، ثم في سورة (طه)، و(الإسراء) و(الحجر) و(الكهف) و(البقرة).
عند تفكيك النص القرآني نجد ثمة (جبرية) تحكم موقف الملائكة، رغم أن الرب الخالق يمنحهم (حرية التعبير والفكر) كما جاء في القرآن الكريم:(وإذ قالَ ربُك للملائكـة ِ إنـي جـاعـلٌ في الأرض خليفــة ً قالـوا أتجعـل فيهـا مَن يُفسدُ فيهـا ويَسفكُ الدمــاءَ ونحــنُ نُسبحُ بحمـدكَ ونُقـدسُ لكَ قالَ إنـي أعـلمُ ما لا تعــلمـون (30) وعـلمَ آدمَ الأسـماءَ كُلهـا ثمَ عـرَضَـُهم عـلى المـلائكــة ِ فقـالَ أنبئوني بأسـماء هـؤلاء إن كنتـم صـادقين (31) قـالـوا سُبحـانكَ لا عـِلمَ لنا إلا ما عَلمتنــا إنـك أنتَ العليـمُ الحكيـم (32) قالَ يا آدم أنبِهُم بأسمائهـِم فلمـا أنبـأهُم بأسمائهـِم قالَ ألمْ اقــُل لـكم إنـي أعلمُ غيب َ السمواتِ والأرض وأعلـمُ ما تبـدونَ وما كنتم تكتمُـون (33) وإذ قُلنـا للمـلائكـــةِ اسـجدوا لآدمَ فسـجدوا إلا إبليسَ أبـى وأستكبرَ وكان من الكـافــرين (34).(سـورة البقـرة).
فالملائكة تناقش هنا خالقها وباريها وربها في خلقه، لكنهم رغم ذلك أطاعوه وسجدوا لآدم. بيد أن (العصيان) و(التمرد) أو بتعبير آخر (حرية الإرادة والاختيار) مارسهما (آدم) و(إبليس)، فقد قرر (آدم وزوجه) إلى الاقتراب من الشجرة المحرمة رغم تحذيرات ربهما وخالقهما بعدم الاقتراب منها. وبغض النظر عن مسألة (غواية إبليس) لهما فأنهما كانا (أحرارا) في (الاختيار)، إذ قررا ب( إرادتهما) أن يقتربا من الشجرة، وان الله الخالق لم يتدخل في قرارهما الذاتي بالاقتراب من الشجرة المحرمة، وإلا لو كان هذا مقدرا لهما لما كانت ثمة (خطيئة) أصلا.
وهذا ينسحب على (إبليس) أيضا، فقد كان (حرا) في معصيته بعدم السجود لآدم، بل أن الخالق يترك له حرية الدفاع عن نفسه، حيث جاء في النص القرآني – (سورة ص): ( قالَ يا إبليسُ ما منَعكَ أن تَسجُدَ لِما خَلَقتُ بيديَّ استكبرتَ أم كُنتَ من العالين (75) قال أنا خيرٌ منهُ خلقتني من نارٍ وخلقتهُ من طين (76) قال فاخرُجْ منها فإنكَ رجيم (77) وإن عليكَ لعنَتي إلى يومِ الدين(78) قال ربِ فأنظرِني إلى يومِ يُبعثون (79) قالَ فإنكَ مِنَ المنُظرين (80) إلى يوم الوقتِ المعلوم (81)).
وقد تكرر النص في سور قرآنية أخرى، ولو باختلاف طفيف في التعبير، ففي (سورة الحجر) نقرأ: (وإذ قالَ رَبُّكَ للملائكـةِ إني خالقٌ بشراً من صلصالٍ من حمـأٍ مسنون (28) فإذا سَويّتُهُ ونَفخَتُ فيهِ من رُوحي فقعُوا لهُ ساجدين (29) فسَجدَ الملائكــةُ كُلُهُم أجمعون (30) إلا إبليسَ أبى أن يكونَ مع الساجدين (31) قالَ يا إبليسُ مالكَ ألا تكونَ مع الساجدين (32) قالَ لمْ أكُن لأسجُدَ لبشر خلقتَهُ من صلصالٍ من حمأٍ مسنون (33) قالَ فاخرُج منها فإنكَ رجيم (34) وإنَّ عليكَ اللعنةَ إلى يومِ الدين (35) قالَ ريِ فأنِظرني إلى يوم يُبعثون (36) قال فإنكَ من المُنظَرين (37) إلى يوم الوقت المعلوم (38).
السؤال الذي تثيره هذه القصة القرآنية العميقة الدلالة هو : هل أن (حرية) آدم و(حرية) إبليس في الجنة خاضعة لقوانين الضرورة والسببية؟ هل يدخلان ضمن سؤال (القضاء والقدر)؟ هل كان مقدرا لآدم وزوجه أن يتخذا هذا الموقف، وكذا إبليس وبهذا يكونا خارج (المعصية)؟ وإذا ما كان الأمر هكذا فهل كان مقدرا أن يهبطا إلى الأرض ليعيشا الشقاء البشري ويدفعا ثمن هذه المعصية؟. إن الأسئلة التي تثيرها هذه القصة تعود بنا إلى الأسئلة التي أثارها الإنسان المفكر (طريد الفردوس) في ما بعد، أي بعد أن تناسل (آدم وحواء) وتكاثر البشر ليشكلوا شعوبا وقبائل. أي سؤال (الحرية) في المنفى الأرضي، وهذا ما سنتوقف عنده لاحقاً.